مقدمة بقلم شربل بعيني

   من الناس الذين تعرّفت عليهم، وأحببتهم، وصاحبتهم، وآخيتهم في أستراليا، كان الصحفي جوزاف أمين بو ملحم.
   فمن هو هذا اللبناني الكبير؟
   يوم (عيد الحب) وفي سنة 1955، زغردت بلدة عيمار الشمالية واستعدت لاستقبال ابن أمين بو ملحم .
  وفي سنة 1980، تخرّج الشاب جوزاف من الجامعة اللبنانية ـ كلية الاعلام، ليهدي (عيماره) إجازة بالتحرير وبوكالات عالمية وأنباء. 
   عام 1981، وفي سني البغض ترك لبنانه الذي عشقه حد الجنون، ليبثه حنينه من أرض غربته، وليدافع عنه، دفاع الام عن وحيدها البريء .
   ومن أجل عينيّ وطنه لبنان الدامعتين، اشترى سنة 1985 جريدة (صدى لبنان)، وبدأ عملية ترميم الجماجم الاغترابية الضائعة وايقاظ الضمائر بها من أجل نصرة وطن الـ 10452 كلم2 .
   سنة 1987 أسس شركة راليا برس للطباعة والنشر، التي بسبب مساهمتها الفعّالة في نشر أدبنا الاغترابي، اختاره قراء "مجلة ليلى" لنيل جائزة الطباعة والنشر لعام 1996.
   شارك بندوات أدبية عديدة ، ومنحته رابطة احياء التراث العربي جائزة جبران العالمية سنة 1992 .
   متزوج من السيّدة تراز عبيد بو ملحم ولهما أربعة اولاد : رونزا، يارا، أمين وفينكس. 
   وعن فوزه بالجائزة يقول: 
  جائزة شربل بعيني ليست جائزة بالمعنى المتعارف عليه للفوز بجوائز، إن هي إلا، كمجلة ليلى، واحة محبّة، ودليل على ثقة الناس وتقديرهم للخدمة التي نوفرها لهم، في راليا برس، أو للمعاملة التي نعاملهم بها. 
   هذه المحبة التي غمرني بها قراء مجلة ليلى، تساوي عندي العطاء وكل الفرح، لذلك أنا أشكرهم عليها كثيراً، وأجدها حافزاً لمتابعة توفير الخدمات والمعاملة الجيدة لابناء جاليتي الكرام.
     ولم يكتفِ جوزاف بذلك، بل ذهّب صفحات جريدته بمقالات أدبية وسياسية رائعة، كان منها ما سوف تقرأونه في هذا الكتاب.
   ذات يوم همست أمي بأذن جوزاف بو ملحم عبارة أفرحته كثيراً: "أنت ابني السابع". ومن ذلك الحين لم نفترق.. ولن نفترق بإذن الله.      ولكن مشكلتي الوحيدة مع جوزاف كانت، وما زالت، أنه متى تأخّرت عليه بالزيارة، يراشقني (بالفاكسات والإيمايلات) الموجعة، التي يدبّجها بقلمه المبدع الساخر، ويرسلها إليّ إماً شعراً وإما نثراً، لتخضّ مضجعي.. وتجعلني أتقلّب في فراشي طوال الليل، وأنا أحلـم بطلّة غد مشرق، كي أقف أمام باب مطبعته، وابتسامتي تسبق سلامي عليه:
ـ كيف حالك يا أبا أمين؟
  فيردّ عليّ بابتسامة أوسع:
ـ الظاهر استلمت الفاكس..
   ولكي تعرفوا عن أي نوع من الفاكسات أتكلّم، أخبركم أنني عدت إلى بيتي ذات يوم، فإذا بوالدتي الحبيبة، رحمها الله، تستقبلني على الباب، وهي تقول:
ـ لقد وصلك فاكس من جوزاف بو ملحم، يشتم فيه أختك..
ـ وهل أنجبتِ لي أختاً كي يشتمها؟!
ـ ولكنه شتمها دون أن أنجبها..
ـ وأين الفاكس؟
ـ على طاولة المكتب..
   صعدت الدرج كالسوبرمان، وارتميت على كرسي المكتب، ورحت أقرأ شعراً على وزن أغنية فيروز الشهيرة (أنا وشادي):
من زمان ع  أيّام الصدى
كان في شاعر يجي من ماريلاندز
إضحك أنا ويّاه
كان إسمو شربل
أنا وشربل كسدرنا سوا
رحنا ع مكدونالد وع السوفلاكي سوا
وبسيارتو ياما وياما ع المطبعة رحنا سوا
ويوم من الأيّام ولعت الدني
ناس ضد ناس علقوا بموطني
اللي بعلمك أحبّه صاروا عدا
قرفنا من الجرايد سكّرنا (الصدى)..
بالمطبعه انزربنا
وما عاد شفنا حبايبنا
لكن جوّا قلوبنا حبّن باقي فعل وصدى
   وفي الختام يشتم أختي التي لـم تولد ولن تولد، ليسألني: وين هالغيبه؟
   وبعد أن انتهيت من القراءة، قلت لأمي:
ـ عجيب أمرك يا أماه، ألـم تحفظي من كل هذه القصيدة الطويلة إلا: (....) إختك، وين هالغيبه؟
   فأجابتني وهي تضحك:
ـ لأنها أجمل ما في القصيدة.. كونها آتية من صديق محبّ اسمه جوزاف بو ملحم. أنصحك بزيارته حالاً قبل أن يرسل لك شتيمة أخرى تنسيك الأولى.
   فما كان منّي إلاّ أن عملت بنصيحتها، ولسان حالي يردّد:
جوزافْ بُو ملْحِمْ بِيسِبّ  
مَعْ هَيْدَا وْكِلُّو بْيِنْحَبّ
مِتْلُو ما بْيُوجَدْ إِنْسَان     
لا بِالشَّرْق وْلا بِالْغَرْب
   ومن المقالات المسلية التي كتبتها عن رفيق غربتي هذا المقال:
 قد يُفاجأ صديقي جوزاف بو ملحم بقراءة هذا المقال في مجلّة "ليلى" ، لا لأن المقال يحكي نكتة صدرت عنه ومنه بعفويّة ومرح، بل لأنّه  نُشِر في زاوية "ستوب"، التي أعلنت وفاتها يوم أعلن جوزاف وفاة جريدته الرائدة "صدى لبنان" وهي في أوج ازدهارها، كي لا يكون شاهد زور في مرحلة كانت وستبقى الأردأ في تاريخ الوطن الحبيب لبنان.
   "ستوب" عادت للحياة بفضل تشجيع إبن أمين بو ملحم وباقي المشتركين الشرفاء، ولن أخبركم كيف اشترك صديقي جوزاف بالمجلّة كي لا أجرح تواضعه.
   أما النكتة فهي :
   قمت بزيارة لمطبعة راليــا برس، التي يديرها "أبو الزوز"، وكان عنده، كالعادة، أكثر من سبعة زبائن، وجوزاف مثل "أم العروس" يروح ويجيء، يرد على أسئلة ذاك، ويبتسم لتـلك، ويفلفـش بيديه آلاف الأوراق البيضاء والمحبّرة، ومع ذلك كلّه يلتفت نحو إحدى النساء الصديقات وينهرها إذا أطلقت سعلة في مطبعته، قائلاً لها:
ـ هون ممنوع القحّ ، بدّك تقحي ، قحّي قبل ما تجي لهون.. 
فكانت تضحك وتقح نكاية به، وتهمس في أذني:
ـ أللـه يساعدو .. 
ـ اسكتي .. هلّق بيسمعك
ـ مش مسموح هيك .. صاحبك عم يتعب كتير .. بكرا بدّي قول لمرتو تراز تشتريلو تاكسي أحسن..
ـ تاكسي!! ليش ما بتقولي جريدة؟
ـ شو .. بدّك يضارب عليك؟
   وفجأة سأله أحدهم أن يكتب له السّعر على ورقة صغيرة كي يتشاور بشأنه مع ابنته العروس.. فأخذ جوزاف بو ملحم يركض صوبي والجدية بادية على وجهه ويصيح:
ـ شربل.. شربل.. معك ورقة؟
ـ معي شو؟..
ـ ورقه.. ورقه..
ـ ولوه.. عندك كل هالورق بالمطبعه.. وبدّك ورقه منّي.. شو مفكّرني POST OFFICE
فضحك جوزاف وقال :
ـ أللـه سترني.. لو كانت "الستوب" بعدا ماشية.. مدري شو كنت عملت فيي.
   هذا قليل من كثير من روح المرح التي يتمتّع بها جوزاف، والتي كنا وما زلنا نعيشها معاً، ولكنه، رغم محبته لي، لم يسخّر قلمه لمراضاتي أدبياً، بل كان ينتقدني بشدة، ليسدد خطاي على درب جلجلة الكلمة، بعد أن يمهّد لعاصفته النقدية بكلمات ولا أجمل:
   عندما يقال شربل بعيني في أستراليا يعرف الجميع أن الشعر هو بيت القصيد.
   فشربل والشعر توأمان في هذه البلاد، حتى أصبح تجنياً ذكر أحدهما دون الآخر.
   خمسة عشر عاماً في المهجر، وعشرة دواوين شعر، وكتابان مدرسيّان، وسيرة حياة. 
   هذا هو شربل بعيني وكفى. 
   أو هكذا يعتصر البحر في كوب صغير!
    بربكم من سيلتفت للنقد بعد قراءته لهذا الاطراء النادر؟ 
   فجوزاف بو ملحم كان يمنحني دائماً صك الغفران، قبل أن يريني نار جهنم، وكنت أفرح بنار نقده كما فرحت بزهور إطرائه.
   وعندما طلبت منه رابطة احياء التراث العربي أن يعرّف بي بعد نيلي جائزة جبران العالمية عام 1987، كتب مقالاً مطوّلاً، أقرب الى الشعر منه الى النثر، باللغتين الفصحى والعامية، توّجه بهذه العبارة، التي لو لم يكتب غيرها، لكان "كفّى ووفّى" كما يقول مثلنا اللبناني:
   "أراني اليوم محرجاً في مهمتي المستحيلة، وكيف لي أن أسلّط الضوء على من كل "البروجكتورات" عليه؟!.."
   اسلوب جوزاف بو ملحم كالليرة الذهبية تعرفها من لمعانها، ولكنه أغلى منها قيمة، لأنه يحوله في كثير من الأحيان إلى ماسة نادرة، كقوله:
    ونأسف كثيراً أن نجد في ثورة "بعيني" رماداً ذرّ بوجه اللهيب، أو ثرى عفّر محيا الثريات اللامعات. 
   هل هذا نثر أم شعر؟ 
   هل هذا انتقاد أم مديح؟
   لست أدري.. 
   ولكنني أعلم تماماً أن انتقاداً كهذا، جعلني أتمسك به بفرح وافتخار، وأعمل على نشره ليصبح مدرسة نقدية لا يتخرّج منها إلا من كانوا بمستوى جوزاف بو ملحم.
   ولكي أثبت لكم صحة ما اقول.. تعالوا نقرأ عبارته الكهنوتية هذه:
   عندما يكتب شاعر نص مسرحيّة يمثّلها أطفال في مدرسة راهبات فهذا يعني أن القصائد تحوّلت فصولاً، والبراءة تغلغلت بالحركات، والقداسة روحنت كل المشاهد.
   ألف شكر يا اخي الحبيب جوزاف بو ملحم على مقالاتك الرائعة التي كرّمتني بها خلال رحلتي مع الكلمة، واسمح لي أن أردّها لك بكتاب، ولسان حالي يردد: أحبك يا أبا الزوز.
**