نوتة للحلمات القدسية

   يوم نشر شربل بعيني ديوانه (ألله ونقطة زيت) في العام الماضي 1988، أعجبت بالديوان، ولكن المخاوف بدأت تساورني على هذا الذي ـ في منتصف عقده الرابع ـ تصوف معربشاً نحو الله!
   اليوم، ها هو شربل بعيني يبدد المخاوف في (معزوفة حب)، ينقر بها على أوتار القلب، وعروق التراب المشغول صبايا من الضلوع.
   وأتساءل: ترى أهي (جهلة الأربعين) مقبلة باكراً؟ أم أن الشعر دار دورته الأولى، فجاءت (معزوفة حب) بكر المواسم الآتية، تماماً كما كانت (مراهقة) بكر المواسم الماضية؟
وإذا كانت (جهلة الأربعين بلا معين)، كما يقول المثل، فأي جهلان هو شربل بعيني؟ ومن هي التي تؤرق عينيه؟ وأي حب هو الذي بينهما؟
   في (معزوفة حب) لا يعزف شربل بعيني على وتر واحد، فهو مرة شديد الاباحية، بري الغرام:
خليني من ريقك إسكر
إزرع بواديكي بداري
أحصد قمح الصدر الأصفر
وآخد من حلماتك تاري
عضّن.. إقرصهن.. إفركهن
إجليهن.. ويطق المرمر 
وهو مرة أخرى رهباني الهوى، نسكي اللواعج:
بهرب منّك.. بس ما فيّي
إهرب من ريحة بخّورك
يا كنيسه بضيعة منسية
..
رح إحبس صوتك ع طول
بدينيي.. وخلّي أنفاسي
تدوزنلو من اللامعقول
نوته.. بترنيمتها قداسه
تارة تجد شربل شلال محبة، دافقاً بالرضى، غير عابىء، تتلألأ ضحكاته بقلب جراحه، وطوراً يعود إلى ضعفه الانساني يعاتب يتوعّد. إذ ما يكاد يقول:
فرحتها هيّي فرحتنا
..
يا حمام الأبيض خبّيها
وزيّن بالطهر لياليها
حتى يسرع ليقول:
لو رجعت أيام الماضي
وصفّى العالم كلّو راضي
وقلبي من عذاباتك فاضي
إنتي مش مسموح تعودي
   ويستمر هذا التلويح بين الحالة وعكسها، بين الشيء ونقيضه، في تطرف مواقف، يعكس قلق الشاعر ولا استقراريته، فما يكاد ينقم على حب هذه الأيام:
إيدك بإيدو، عيب، شو صابِك
متل الشهور بيمرقوا حبابِك
انكنتي (السنه) روزنامتك أوهام
انكتي (الزهر) عمر الزهر أيام
وناطر خريف وبرد ع بوابِك 
حتى يقول في قصيدة بعنوان بدّي حبّك:
بيكفيني.. بيكفيني بس
أوقف إتطلع فيكي
وخبّيكي بعيوني شمس
كلما تعتّم إضويكي
..
ولو منعوا إيدي تنمد
وحطّوا بيني وبينك سدّ
بيكفيني حوّشلك ورد
وبأحلامي إهديكي
هذه الـ (بيكفيني حوشلك ورد) تؤرق الشاعر في قصيدة أخرى فيقول:
آخ منّك كيف بدي نام
وغيري معا نايم
ع زهورها حايم
وتحت منّو جسمها منضام 
لذلك نرى شربل بعيني يعلن وفاة هذا الحب ويلعنه قائلاً:
ع جرح قلبي مشيت
وصرخت من قهري
صرخة طفل مجنون
يا بينتهي عمري
يا حبّك الملعون!
   ولكنه سرعان ما يسحب كلامه، ينقلب على ذاته، يقسم بعيني حبيبته، أنه سيسرق القصيدة ويحرقها:
كذبت لمن قلت: حبّك مات
..
وحياة عينك بسرقا
هاك القصيده وبحرقا
على هذا المنوال يستمر شربل في النسيج، تطارده فيختفي، تتعقبه فيهرب، تحشره فيتملص بزئبقية، وتكمشه فيتفلت..
أما حبيبته فهي من ذات العجينة.. أو (قل إن الشعراء على أشكالهم يقعون)، فإنك ما تكاد تجازف بإعلان اسمها بقصيدة ما، حتى تفاجئك بالقصيدة التالية بشخصية أخرى وشكل آخر، وتعرف عندها أن الحبيبة حبيبات بالمطلق، بحيث يبدو تحديد هويتها ضرباً من الخفّة. أكثر من هذا، ان شربل بعيني ـ أحياناً ـ لا يعرف من هي هذه الحبيبة! ألا فلنسمعه يناجيها:
نصّي معك.. تخمين!
وما بعرفك مينك
خلقتي إلي من سنين
وتأخروا سنينِك
وصرلي عمر ناطر
تتزنّر قناطر
مكسورة الخاطر
بزهور ياسمينِك
   أجمل ما في شعر شربل بعيني، ان المرأة عنده مرأة، أفلتها من نظرة الرجل الجاهلية، حيث كانت عيناها كعيني البقر الوحشي، وقدها كغصن البان، وشعرها كالليل، وأسنانها كالبرد، ناهيك عن العناب والرمان وتشابيه ذلك الزمان، التي تربط المرأة بالحيوان، وتنظر إليها من الخارج، كسلعة، كمتعة، دون أن تنفذ الى الأعماق، أو تعاملها معاملة الانسان للانسان.
هذه المرأة يعدها شربل (بالحب):
نسيوا مش رح يعطوكي
قد ما الحب بيعطيكي
ويعاهدها برقة المعاملة:
وان جيت مره إجرحا
بيوسع بقلبي مطرحا
والكلمة اللي بتقهرا ايام
بلغيا
أو بمحيا
أو خلف ضهري بشلحا.
ويقبل شربل على دنيا الحب بعطش العطاء عند من فاضت غلاله وأصبح بين أمرين: إما أن يعطي بسخاء، واما أن يهرب من مواسمه وتعبه:
وتعبت من خيالا
شوالات عرقانه
بيخطر على بالا
تهرب من غلالا
ولا تضل تعبانه
وهو ـ كأي شاعر ـ لا يتوانى عن رسم عالم خيالي، لصبية ما، ينعمان فيه معاً، انتقاماً من حرمان هذا العالم:
علوّاه لو فيّي
لوّن بحر أزرق
لعيون حوريّه
بتنطر الصيفيه
تا بشمسها تغرق
وإتسبّح قبالا
والجسم عم يلوي
وإشهق مع خيالا
كلما الشمع يضوي
وتبقى المرأة عنده ـ في قصائده الطوباوية والماجنة على السواء ـ نهر طهر وشلال عاطفة. لا بل هي أطهر من الكتب المقدسة! وقد ظهر ذلك جلياً في:
حبيتك يا بنت بلادي
بكل عذابك..
بالكدمات اللي تركوها فوق زنودك،
فوق الصدر البعدو أطهر
من كل (الكتب) القريوها
حبيتك تا صرتي العرس
المش رح إرضى يفارق بالي 
   وبعد، ان هذه (المطاردة) ليست دراسة نقدية، ولا هي مقالة تحليلية، إنما، حسبها أن تكون رشفة من نبع، معجبة بعذوبة مائه، ولكنها لا تغني عنه في شيء.
صدى لبنان ـ 1989
**